كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأيضًا إلى نفقة خليفته لكونه خادمًا له قائمًا مقامه وما فضل من ذلك كان يصرف إلى مصالح المسلمين، فلم يبق له بعد وفاته ما يكون ميراثًا لأهل بيته.
وسيجيء ما يؤيده وعلى كل تقدير قعد سليمان يومًا بعد ما صلى الظهر على كرسيه وكان يريد جهادًا، فاستعرض تلك الأفراس؛ أي: طلب عرضها عليه، فلم تزل تعرض عليه وهو ينظر إليها ويتعجب من حسنها حتى غربت الشمس وغفل عن العصر، وكانت فرضًا عليه كما في كشف الأسرار، وعن ورد: كان له من الذكر وقتئذٍ وتهيبه قومه فلم يعلموه فاغتم لما فاته بسبب السهو والنسيان فاستردها فعقرها تقربًا إلى الله وطلبًا لمرضاته على أن يكون العقر قربة في تلك الشريعة، ولذا لم ينكر عليه فعله أو مباحًا في ذلك اليوم، وإنما أراد بذلك الاستهانة بمال الدنيا لمكان فريضة الله كما قال أبو الليث فلم يكن من قبيل تعذيب الحيوان.
يقول الفقير: سر العقر هاهنا هو أن تلك الخيل لما شغلته عن القيام إلى الصلاة كان العقد كفارة موافقة له.
وقال بعضهم: المراد من العقر: الذبح فيكون تقديم السوق كما يأتي لرعاية الفاصلة، فذبحها وتصدق بلحومها. وكان لحم الخيل حلالًا في ذلك الوقت وإنما لم يتصدق بها، لأنه يحتاج إلى زمان ووجدان محل صالح له.
والحاصل: أنه ذبح تسعمائة وبقي مائة وهو ما لم يعرض عليه بعد فما في أيدي الناس من الجياد، فمن نسل تلك المائة الباقية كذا.
قالوا: وفيه أن هذا يؤيد كون تلك الخيل قد أخرجت من البحر إذ لو كانت من غنائم الغزو لم يلزم أن يكون نسل الجياد من تلك المائة لوجود غيرها في الدنيا، وأيضًا على تقدير كونها ميراثًا من أبيه بالمعنى الثاني كما سبق تكون أمانة في يده والأمانة لا تعقر ولا تذبح كما لا يخفى.
{فَقَالَ إِنِّى أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّى} قاله عليه السلام عند غروب الشمس اعترافًا بما صدر عنه من الاشتغال بها عن الصلاة وندمًا عليه وتمهيدًا لما يعقبه من الأمر بردها وعقرها، والتعقيب بالفاء باعتبار آواخر العرض المستمر دون ابتدائه والتأكيد للدلالة على أن اعترافه وندمه عن صميم القلب لا لتحقيق مضمون الخبر وأصل أحببت: أن يعدى بعلى لأنه بمعنى آثرت كما في قوله تعالى: {فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} (فصلت: 17).
وكل من أحب شيئًا فقد آثره، لكن لما أنيب مناب أنبت وضمن معناه عدي تعديته بعن وحب الخير مفعوله؛ أي: مفعول به لانبت المضمن، والذي أنيب مناب الذكر هو الاطلاع على أحوال الخيل لا حب الخيل إلا أنه عدى الفعل إلى حب الخيل للدلالة على غاية محبته لها فإن الإنسان قد يحب شيئًا، ولكنه يحب أن لا يحبه كالمريض الذي يشتهي ما يضره، ولذا لما قيل لمريض: ما تشتهي. قال: أشتهي أن لا أشتهي، وأما من أحب شيئًا وأحب أن يحبه فذلك غاية المحبة.
والخير: المال الكثير والمراد به: الخيل التي شغلته عليه السلام؛ لأنها مال ويحتمل أنه سماها خيرًا كأنها نفس الخير لتعلق الخير بها.
قال عليه السلام: «الخير»؛ أي: الأجر والمغنم «معقود بنواصي الخيل إلى يوم القيامة».
والمراد بالذكر: صلاة العصر بدليل قوله: بالعشي، وسميت الصلاة ذكرًا؛ لأنها مشحونة بالذكر كما في كشف الأسرار أو الورد المعين وقتئذٍ.
ومعنى الآية: أنبت حب الخيل؛ أي: جعلته نائبًا عن ذكر ربي ووضعته موضعه، وكان يحب لمثلي أن يشتغل بذكر ربه وطاعته.
{حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} التواري: الاستتار. والضمير للشمس، وإضمارها من غير ذكر لدلالة العشي عليها إذ لا شيء يتوارى حينئذٍ غيرها، فالحجاب: مغيب الشمس ومغربها، كما في المفردات، وحتى متعلق بقوله: أحببت، وغاية له باعتبار استمرار المجبة ودوامها حسب استمرار العرض.
والمعنى: أنبت حب الخير عن ذكر ربي واستمر ذلك حتى توارت؛ أي: غربت الشمس تشبيهًا لغروبها في مغربها بتواري الجارية المخبأة بحجابها؛ أي: المستترة بخبائها وخدرها.
وقيل: الضمير في توارت للصافنات؛ أي: حتى توارت بحجاب الليل؛ أي: بظلامه؛ لأن ظلام الليل يستر كل شيء.
{رُدُّوهَا عَلَىَّ} من تمام مقالة سليمان ومرمى غرضه من تقديم ما قدمه، والخطاب لأهل العرض من قومه؛ أي: أعيدوا تلك الخيل عليّ.
{فَطَفِقَ مَسْحَا بِالسُّوقِ وَالأعْنَاقِ} الفاء: فصيحة مفصحة عن جملة قد حذفت ثقة بدلالة الحال عليها وإيذانًا بغاية سرعة الامتثال بالأمر وطفق من أفعال المقاربة الدالة على شروع فاعلها في مضمون الخبر، فهو بمعنى أخذ وشرع وخبر هذه الأفعال يكون فعلًا مضارعًا في الأغلب ومسحًا نصب على المصدرية بفعل مقدر، هو خبر طفق.
والمسح: إمرار اليد على الشيء.
والجمهور على أن المراد به هنا القطع من قولهم: مسح علاوته؛ أي: ضرب عنقه وقطع رأسه.
والعلاوة: بالكسر أعلى الرأس أو العنق.
قال في المفردات: مسحته بالسيف كناية عن الضرب.
والسوق: جمع ساق كدور ودار.
والساق: ما بين الكعبين كعب الركبة وكعب الرجل.
والأعناق: جمع عنق، بالفارسية: كردن.
والباء: مزيدة كما في قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} فإن مسحت رأسه ومسحت برأسه بمعنى واحد.
والمعنى: فردوها عليه فأخذ يمسح بالسيف مسحًا سوقها وأعناقها؛ أي: يقطع أعناقها ويعرقب أرجلها؛ أي: هو وأصحابه، أو يذبح بعضها ويعرقب بعضها إزالة للعلاقات ورفعًا للحجاب الحائل بينه وبين الحق واستغفارًا وإنابه إليه بالترك والتجريد.
وفي الآية إشارة إلى أن حب غير الله شاغل عن الله وموجب للحجاب، وأن كل محبوب سوى الله إذا حجبك عن الله لحظة يلزمك أن تعالجه بسيف نفي لا إله إلا الله.
قال الإمام في تفسيره: الصواب أن يقال: إن رباط الخيل كان مندوبًا إليه في دينهم كما هو مندوب إليه في شرعنا.
ثم إن سليمان عليه السلام احتاج إلى الغزو فجلس على كرسيه وأمر بإحضار الخيل وأمر بإجرائها. وذكر أني لا أجريها لأجل الدنيا وحظ النفس وإنما أجريها وأحبها لأمر الله تعالى وتقوية دينه، وهو المراد من قوله: {عن ذكر ربي} ثم إنه أمر بإجرائها وتسييرها {حتى توارت بالحجاب؛} أي: غابت عن بصره، فإنه كان له ميدان واسع مستدير يسابق فيه بين الخيل حتى تتوارى عنه وتغيب عن عينه، ثم إنه أمر الرائضين بأن يردوها فردوا تلك الخيل إليه فلما عادت إليه طفق يمسح سوقها وأعناقها؛ أي: بيده حبالها وتشريفًا وإبانة لعزتها لكونها من أعظم الأعوان في قهر الأعداء وإعلاء الدين، وهو قول الزهري وابن كيسان، وليس فيه نسبة شيء من المنكرات إلى سليمان عليه السلام، فهو أحق بالقبول عند أولي الأفهام.
وفي الفتوحات المكية: معنى الآية: أحببت الخير عن ذكر ربي الخير بالخيرية فأحببته لذلك.
والخير: هي الصافنات: الجياد من الخيل.
وأما قوله: {فطفق مسحًا}؛ أي: يمسح بيده على أعناقها وسوقها فرحًا وإعجابًا بخير ربه لا فرحًا بالدنيا؛ لأن الأنبياء منزهون عن ذلك وهذه تشبه ما وقع لأيوب عليه السلام حين أرسل الله له جرادًا من ذهب، فصار يحثو في ثوبه منه ويقول: لا غنى لي عن بركتك يا رب، فما أحب سليمان الخير إلا لكونه تعالى أحب حب الخير ولذلك اشتاق إليها لما توارت بالحجاب، يعني: الصافنات الجياد لكونه فقد المحل الذي أوجب له حب الخير عن ذكر ربه، فقال: ردوها عليّ.
وليس للمفسرين الذين جعلوا التواري للشمس دليل، فإن الشمس ليس لها هنا ذكر ولا الصلاة التي يزعمون ومساق الآية لا يدل على ما قالوه بوجه ظاهر البتة.
انتهى كلام الفتوحات.
وعن علي رضي الله عنه: اشتغل سليمان عليه السلام بعرض الأفراس للجهاد حتى توارت بالحجاب؛ أي: غربت الشمس، فقال بأمر الله للملائكة الموكلين بالشمس: ردوها، يعني: الشمس فردوها إلى موضع وقت العصر حتى صلى العصر في وقتها فذلك من معجزات سليمان عليه السلام.
ولا عبرة بقول بعضهم بوضعه:
واعلم أن حبس الشمس وردها وقع مرارًا.
ومعنى حبسها: وقوفها عن السير والحركة بالكلية أو بطء حركتها أو ردها إلى ورائها.
ومعنى ردها: إعادتها بعد غروبها ومغيبها فقد حبست لداود عليه السلام.
وذلك في رواية ضعيفة وردت لسليمان على ما قرر.
وحبست أيضًا لخليفة موسى عليه السلام، وهو: يوشع بن نون، فإنه سار مع بني إسرائيل لقتال الجبارين، وكان يوم الجمعة ولما كاد يفتحها كادت الشمس تغرب، فقال للشمس: أيتها الشمس إنك مأمورة وأنا مأمور بحرمتي عليك، إلا ركدت؛ أي: مكثت ساعة من النهار.
وفي رواية: اللهم احبسها عليّ فحبسها الله حتى افتتح المدينة، وإنما دعا بحبسها خوفًا من دخول البيت المحرم عليهم فيه المقاتلة.
وردت أيضًا لعلي رضي الله عنه بدعاء نبينا عليه السلام على ما سبق.
وحبست أيضًا عن الغروب لنبينا عليه السلام، وذلك أنه أخبر في قصة المعراج أن عير قريش تقدم يوم كذا، فلما كان ذلك اليوم أشرفت قريش ينتظرون ذلك، وقد ولى النهار حتى كادت الشمس تغرب، فدعا الله تعالى فحبس الشمس عن الغروب حتى قدمت العير، وفي بعض الروايات حبست له عن الطلوع؛ لأنه عليه السلام قال: «وتطلع العير عليكم من الثنية عند طلوع الشمس» فحبس الله الشمس عن الطلوع حتى قدمت العير.
وحبست أيضًا له عليه السلام في بعض أيام الخندق إلى الاحمرار والاصفرار وصلى حينئذٍ.
وفي بعضها لم تحبس بل صلى بعد الغروب.
وإليه الإشارة بقوله عليه السلام: «شغلونا عن الصلاة الوسطى» أي: عن صلاة العصر.
في كلام سبط ابن الجوزي إن قيل: حبسها ورجوعها مشكل؛ لأنها لو تخلفت أو ردّت لاختلت الأفلاك وفسد النظام، قلنا: حبسها وردها من باب المعجزات ولا مجال للقياس في خرق العادات.
وذكر أنه وقع لبعض الوعاظ ببغداد أنه قعد يعظ بعد العصر ثم أخذ في ذكر فضائل آل البيت، فجاءت سحابة غطت الشمس وظن الناس الحاضرون عنده أن الشمس غابت فأرادوا الانصراف فأشار إليهم ألا يتحركوا، ثم أدار وجهه إلى ناحية المغرب، وقال:
لا تغربي يا شمس حتى ينتهي ** مدحي لآل المصطفى ولنجله

إن كان للمولى وقوفك فليكن ** هذا الوقوف لولده ولنسله

فطلعت الشمس فلا يحصى ما رمي عليه من الحليّ والثياب.
هذا كلامه رحمه الله سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ} الفتنة: الاختبار والابتلاء.
{وَأَلْقَيْنَا} الإلقاء: الطرح.
{عَلَى كُرْسِيِّهِ} الكرسي: اسم لما يقعد عليه والمراد: سريره المشهور، وقد سبق في سورة سبأ.
{جَسَدًا} قال في المفردات: الجسد: الجسم لكنه أخص.
قال الخليل: لا يقال: الجسد لغير الإنسان من خلق الأرض ونحوه. وأيضًا فإن الجسد يقال: لما له لون. والجسم يقال: لما لا يبين له لون كالماء والهواء.
وقال في أنوار المشارق: الفرق بين الجسد والبدن، أن الأول يعمّ لذي الروح وغيره، ويتناول الرأس والشوى.
والثاني: مخصوص بذي الروح ولا يتناولهما.
ومن هذا قد اشتهر فيما بينهم حشر الأجساد بإضافة الحشر الخاص بذي الروح إلى الأجساد العامة له، ولغيره دون الأبدان المخصوصة وذلك لأن في إضافته إلى البدن باعتبار أنه لا يتناول الرأس والشوى على ما نص عليه الزمخشري في الفائق والخليل في كتاب العين قصورًا مخلًا بحكم الإعادة بعينه.
وأما ما في الجسد من العموم الزائد على قدر الحاجة، فمندفع بقرينة إضافة الحشر.
انتهى كلام الأنوار.
والمراد به في الآية: القالب بلا روح كما سيأتي.
{ثُمَّ أَنَابَ} أي: سليمان عليه السلام.
والإنابة: الرجوع إلى الله تعالى.
روي أن سليمان كان له ثلاثمائة امرأة وسبعمائة سرية، وكان في ظهره ماء مائة رجل؛ أي: قوتهم.
وهكذا أنبياء الله أعطي كل منهم من القوة الجماعية ما لم يعط أحد من أفراد أمته، وكذا الولي الأكمل؛ فإن له قوة زائدة على سائر الآحاد، وإن لم تبلغ مرتبة قوة النبي، فقال سليمان عليه السلام يومًا: لأطوفن الليلة على سبعين امرأة؛ أي: أجامعهن أو تسعين أو تسع وتسعين أو مائة، تأتي كل واحدة بفارس يجاهد في سبيل الله، ولم يقل إن شاء الله، فقال له صاحبه؛ أي: وزيره آصف، قل: إن شاء الله فلم يقل فطاف عليهن تلك الليلة، فلم تحمل إلا امرأة واحدة جاءت بشق ولد له عين واحدة ويد واحدة ورجل واحدة فألقته القابلة على كرسيه وهو الجسد المذكور.
قال نبينا عليه السلام: «لو قال: إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرسانًا أجمعون».
قال القاضي عياض رحمه الله: وإن سئل: لم لم يقل سليمان في تلك القصة المذكورة: إن شاء الله فعنه أجوبة، أسدّها ما روي في الحديث الصحيح أنه نسي أن يقولها؛ أي: كلمة إن شاء الله وذلك لينفذ مراد الله.
والثاني: أنه لم يسمع صاحبه وشغل عنه. انتهى.
فمعنى ابتلائه قوله: لأطوفن إلخ، وتركه الاستثناء ومعنى إلقاء الجسد على كرسيه، إلقاء الشق المذكور عليه.
ومعنى إنابته: رجوعه إلى الله تعالى عن زلته، وهو تركه الاستثناء في مثل ذلك الأمر الخطير، لأن ترك الأولى زلة للأنبياء إذ حسنات الأبرار سيئات المقربين، ألا ترى أن نبينا عليه السلام لما سئل عن الروح وعن أصحاب الكهف وذي القرنين قال: «ائتوني غدًا أخبركم» ولم يستثن فحبس عنه الوحي أيامًا، ثم نزل قوله تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَىْءٍ إِنِّى فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلا أَن يَشَاءَ اللَّهُ} (الكهف: 23، 24).